القصّة بعنوان : من منظور آخر
التصنيف : نفسي - خيال
الحالة : منتهية ، جزء واحد فقط
أترككم مع القصة
.. ~ ..
ومضت خطوطٌ هزيلة وسط ذلك الظلام الدامس الذي كان فيه ، تلاحمت الومضات سوياً فشكّلت نسيجاً مليء بالألوان،
ألوان اقتحمت عالمه المظلم الذي تلاشى من حوله الآن ، كلّ ذلك حدث عندما تمكّن من فتح عينيه.
كان مفترضاً ان يشعر بالأمان بعد انقشاع الظلمة ، لكنّ شيئاً من ذلك لم يكن ، أخافته الألوان أكثر ..
فقد اعتاد الاشياء على لونٍ واحد ، ربّما لا يعرف له اسماً لكنّه لونٌ كان يخفي كل الأشياء حوله ، لا يظهر تفاصيلها
أو ملامحها ، لا يظهر منها شيئاً ، وقد كان ذلك يشعره بالأمان.
لكن بعدما أبصر باتت الاختلافات الكثيرة التي تحيط به تقحمه في دوامة المجهول ، لا يعرف عنها أي شيء
ألوانٌ كثيرة هنا ، لم يكن قادر على معرفة ما يوجد فوقه ، فلم يتمكّن أبداً من رفع بصره لأعلى
بقي بصره يكاد متلاصقاً بذلك الشيء الذي وقف عليه ذاك الوقت ، لا يعلم ماهيّته ، لكنّه أوسع ما رآه منذ تلك اللحظة القريبة التي فتح عينيه فيها!
لقد كان شيئاً ساخناً ، ساخناً جدّاً ، لم يمكّنه من المكوث لحظاتٍ عليه ثابت القوام
بدأ يزيح نفسه من مكانها ، فيرتاح من لهيبٍ ليعاني من آخر ، ما لبث في مكانٍ سوى لحظات ، حتى تعود الحرارة
ضاربة جسده بكل قوّتها ، فزادت حركته ، وزادت مخاوفه أكثر فأكثر !
بدأ يعدو ، يركض صوب اللانهاية ، لا يشعر أنّه ينجز الكثير بهروبه ، فالمكان لا يزال كما كان
ذلك الشيء الممتد المخيف الذي يقف عليه ، وأشباحٌ طويلة لا يعرف آخر امتدادها إلى أين
فلا يمكنه مدّ بصره للأعلى لكنّ تلك الأشباح تبدو أطول بكثيرِ من امتداد ناظريه
استمرّ في الركض كثيراً ، حتى أوقفه هول ما رآه ! لقد كان وحشاً بأضعاف حجمه
وقف أمامه وقد نسي حرارة ذلك الشيء أسفله ، شعر بخوفٍ لم يتملّكه من تلك الأشباح الطويلة ولا من تلك الأشياء المختلفة
ولا حتى من اللانهاية التي يركض نحوها !
نظر إليه ذلك الوحش نظرة كانت كفيلة بأن تخرّ قواه أرضاً ، حاول الالتفاف يميناً ويساراً
لكنّه لم يستطع فعل أي شيء ، لقد فقد قدرته على الركض ، انبطح تماماً على ذلك الشيء ، احتضن لهيبه
كانّه يتوسّله أن يبقى في عذابه عوضاً أن ينل منه ذلك الوحش المخيف ، كان لون الوحش مشابهاً لذلك
اللون الذي عشقه قبلما يفتح عينيه ويحدث كل ما حدث ، ومع ذلك لم يشعر فيه بأي أمان تضرّع إليه منذ أن انقشع من حول كل ذرة أمان تحلّى بها
وسط تفكيره ، نظر فوجد ذلك الوحش يقترب منه بسرعة لا تسع خبرته الضئيلة
فجأة أصبح الشيء اللانهائي أسفله متناهي الصغر ، لا طول فيه على الإطلاق
اقترب الوحش أكثر فأكثر ، وشعر هو بأن كل شيء قد انتهى ، لا قوى لديه للهرب ، ولا سرعة لديه تضاهي هذا المهول
استسلم للأمر ، واستعجل وصوله إليه ، لكنّ كل شيء توقّف فجأة ، عندما هبط ذلك الشّبح العملاق الذي ظنّه ساكناً على الوحش
الذي بات حقيراً متناهي الصّغر أسفل من أصبح مسيطراً الآن ، رفع ذلك الشّبح نفسه فإذا بالوحش لم يعد له أي وجود ..
رغم انقضاء كل شيء لم يشعر بأي أمان ، لم يشعر بأن ذلك الشّبح سيسكن من جديد بعدما قضى على الوحش
لا يشعر بأنّه قصد إنقاذه ، إنّه يشعر بأنّه سيقضي عليه هو الآخر
نظر أسفله فإذا بذلك اللون الذي تلوّن به الوحش وما كان قبل أن يفتح عينه يظهر من جديد
هذه المرة يشعر تجاهه بالأمان ، لا يعرف لمَ تغيّر الحال الآن ، أخذ اللون في السيطرة على ناظريه شيئاً فشيئاً
شعر أخيراً بأنّه سينتهي من العذاب الذي كان فيه منذ أن فتح عينه
كان في نفسه فضولٌ فقط لكلّ ما رأى ، ما كل تلك الأشياء ؟ وما سبب وجودها ؟ ما هو الوحش ؟ وما هي الأشباح ؟
وما فائدة باقي الألوان ؟
ازداد اللون نفسه حوله أكثر فأكثر فعرف أنّ لا وقت عنده ليحظى بإجابة كل تلك التساؤلات
لم يعرف لمَ فتح عينيه .. ولمَ سيغلقها الآن ؟
شعر بألم بسيط عمّ معه اللون الآمن من جديد ، وغطّى كل شيء حوله مرة أخرى
وعاد لا يشعر بأي شيء .. تماماً كما كان !
.. ~ ..
من منظور آخر
كان يوماً مشمساً ذلك اليوم الذي قرّر صديقه فيه أن يذهبا إلى المنتزه ، اعتاد صديقه خلع حذاءه والركض سريعاً في ذلك المنتزه كل يوم
لكنّه لم يفعلها هذه المرّة فقد كانا يشعران بحرارة الشّمس المنعكسة على الأرض تكاد تحرق أقدامهما داخل أحذيتها
لم يكن يحب طيش صديقه كثيراً ، لكنّه كان يجاريه فيما يفعل لا أكثر .. جلس على أحد كراسي المنتزه ..
تلك الكراسي الثابتة بأربعة أرجلٍ على الأرض والتي كانت تملأ المكان ، كان يحبّ التأمّل ، فبينما يمرح صديقه في كل زاوية من المتنزه
كان يكتفي هو بالابتسام له في كل مرة ينظران إلى بعضهما البعض ، بينما كان يستثمر وقته في التأمّل هنا وهناك
فلا يجد ما يجذب انتباهه فينشغل بحلمه أن ينهي سنته الثانية في المدرسة الابتدائية بتفوقٍ منقطع النظير ، لا يريد أن يخسر المركز الأول الذي كان من نصيبه العام الماضي
لكنّ هذه المرة ظفر تأمّله بانتباهه كلّياً ، فقد لاحظ شيئاً ضئيلاً يمضي بسرعة على الأرض ، اقترب قليلاً ووقف ثابتاً أمامه فوجد أنّها يرقة دودة قد نمت قليلاً
ما لبثت اليرقة أن اقتربت منه قليلاً حتى غيّرت مسارها وزادت سرعتها ، لابدّ أنّها شعرت بالخوف ممّا كان أمامها !
استمرّ في مراقبتها حتى وجد على مقربة منها خنفساء سوداء اللون ، كانت هي الأخرى تركض على الأرض الحارقة لكنّها في اتجاهها المعاكس.
لاحظ صديقه تأمّلاته في حشراتِ الأرض ، فضحك ضحكة ساخرة رنّ صداها في أذنه
فنظر إليه فإذا به يركض سريعاً ثمّ يفرد ساقه اليمنى ويدهس بها على الخنفساء ، دهسة جعلتها تلتصق بأسفل حذائه
نظر إليه بعدها قائلاً " هل أتيت لتمرح معي أم لتراقب خنفساء تجري على الأرض "
كان صوت صديقه عالٍ .. جعل كل أطفال المتنزه يسخرون منه ويضحكون على تفاهاته
شعر بوخز في صدره يحثّه على ابعاد كل تلك المضايقات عنه
سقطت دمعة من عينيه فتدارك الأخريات ومسح كلّ ما بعينه بيده الصّغيرة ..
ثمّ نظر إلى صديقه قائلاً : " أنا لا أراقب شيئاً ، كنتُ أريد أن أقتلها لكنّك سبقتني لا أكثر "
شعر بأنّ كلماته لم تنطلي على صديقه ، فرفع ساقه هو الآخر سريعاً وهبط بها بقوّة على تلك اليرقة الصغيرة ثمّ رفع قدمه مرّة أخرى وقد تلاشت من الوجود
ليست على الأرض وليست حتى ملتصقة بأسفل حذائه ، يبدو أنّه صبّ مشاعره في ضربته فسحقها أشرّ سحقة !
- انتهت -