رحلة قمر ومسيرة شمعة
ما أروع ذاك القمر العظيم ! ما أروع قصته ! وما أعظم عطائه ! تبدو عليه مظاهر الجد كلما رأيته ،يظهر نحيفا مشع بتواضع ملموس من انحنائه الجميل، يُطل من خلف الأكمات والتلال ،بادئ رحلته المتواترة بين الشرق والغرب، رحلة شاقة وصعبة ، تارة يصارع الرياح وتارة يعارك الغيوم .
......ذالك الصديق الرقيق، الذي نعايشه ونحاكيه أحيانا، نسامره ويسامرنا ، فكم شكونا له ظلم أخ أو غدر صديق أو فراق حبيب ، وكثيرا ما رأيناه مبتسما كأنه يحدثنا عن أسفاره ورحلاته ، وكم كان يعاني إذا اعترضته غيمةسوداءلا خوفا من ظلمتها بلا خوفا ان تهزمه قبل أن يرى أحبائه مبتسمين أصبح أقمار، وكم حزن إذا ما اعترضت له غيمة بيضاء يكابد بمصارعتها حتى يخرج منها وتعود إطلالته على من أحبهم وعشقوه ، فهم أحبائه وسُمَّاره ، وكم عانوا نهارا لبعده عنهم وسعد ليلا لعودته لهم وقربه منهم .
.......ولكنه إذا ما أكتمك عمره وطعن سنه يظل مبتسما رغم علامات الكبر وتجاعيد الزمن في وجناته ،رغم هذا وذاك تراه متنقلا نشطا دءوب الحركة مُصرٌّ على الترحال ليعود بسعادة جميلة مع إطلالة كل ليلة جديدة . ولكن غيوم الشتاء الداكنة تحجبه عن محبيه وتحاول كتم أنواره ، فتخور قواه الضعيفة أمام قوة وبرد هذه الغيمة فتأخذه إلى عالم المجهول .
...............أما تلك الشمعة الوردية، ممشوقة القوام حسنة الجوهر والمظهر، لها سيرة عجيبة ورحلة فريدة، فهي من تحرق نفسها لتضيء المكان لمن حولها ،غير آبهة بحرارة اللهب الساطع المنبعث من رأسها ، مخلوقة عجيبة خلقت من أل لا شيء لتضيء على كل شيء .
هي شمعة ذات سيرة جميلة مع أحبابها ممن جالسوها أو عاشوا زمنها ،ذات فستان مزركش براق ، وفتيل أبيض من أخمص قدمها حتى رأسها ،به شعلة مضيئة مبتسمة لمن حولها فبينهما حب فطري عميق ، تتموج شعلتها يمنة ويسرة في حركة مستمرة كأنها تتفقد كل شيء حولها ، ومن غريب صفاتها كثرة الدموع المسكوبة من عينيها
حيث تنحت خيوطا مستقيمة ومتموجة على وجنتيها الجميلتين ، وإذا ما مرَّ أحد من أمامها صارعته لأنها لا تريد أن يرتفع نظرها أو لهيبها عن أحبائها .
وإذا ما قاربت على الانتهاء وتراها كلت عزيمتها وخفت نورها ، ثم تتراقص شعلتها كطفل يرتجف ، و فجأة تمر بها نسمة ريح سوداء فتُطفئ ضوئها وتبقي ما يشبه الجمرة الصغيرة على رأس الفتيل يلبث لحظه ثم ينتهي فتختفي الشمعة ويرتحل الضوء .... .
ذاك القمر المضيء هو الأب ، مضيء بعطائه بكرمه بتفانيه بكده بتعبه بحبه بوفائه.... كان صغيرا فنما وكبر ثم تزوج وكان الأبناء وبدأت رحلة العمل والسعي والشقاء، أعطا دون كلل وقدم دون ملل ، ضحى وصبر حتى عجز من صبره الصبر .
هو من أحب أبنائه وتمنى لهم ما لم يحصله لنفسه ، هو من شاركهم الهموم وأرساهم على عتبة الرجولة .
أما الغيمة السوداء فهي أيام مرضه أو أيام أسفاره وترحله عن أبناءه سعيا لتوفير لقمة العيش ،أما معاناته نهارا فهو عمله اليومي الذي ما كل من طيلة حياته ،وبهائه وسعادته ليلً فهو حين عودته من عمله واجتماعه بمن أحب ومسامرتهم وسماع أخبارهم ومشاركة همومهم ،وأما قوس قزح الملون فهو انحناء ظهره وبياض شعره وتجاعيد وجهة وذبول عينيه ................ .
أما الغيمة السوداء التي حجبته فذاك الأجل الذي أختطفه من بين ظهراني أبنائه وأحفاده وأحبائه ،فبرحيله رحلت البركة وحل الظلام رحل الوفاق وحل الفراق !!!!!!!!!!!!
......... أما تلك الشمعة الوردية ،هي الأم التي هزت السرير بيساره وهزت العالم بيمينها ، هي المدرسة الحقيقية ، هي النفيسة والقديسة ، هي الحنان والجنان .
خلقها الله من ضلع الرجل لتكون شريكته في تربية الأولاد ، وخصها من الجهة اليمنى
القريبة من القلب ، لتحمل صفة الحب والحنان وكذالك التضحية بكل قواها عن هذا القلب (وهو أولادها) ، أما الفستان المزركش فهو الثوب الشعبي وأما الفتيل فهو عمرها وذاك الضوء والوهج في رأسها فهو آمالها وآلامها ،كدها وسهرها ،دمعها وبسمتها ، أما تموج الضوء يمنة ويسره فهو عملها خارج البيت أو في البيت حيث الاستيقاظ المبكر وتجهيز الأبناء للذهاب إلى أعملهم أو مدارسهم ومن ثم أعمال البيت الشاقة من ترتيب وغسيل وتنظيف ..........الخ .
.....أما الدموع الملونة فدموع غزيرة لمرض عزيز أو فراق حبيب من الأولاد ودموع أخرى من أجل نجاح أحدهم أو زواجه، وأما من يمر أمامها فذاك سفر أبنائها أو مرضهم فهي على شوق حتى يعود الغائب ويشفى المريض، أما الرياح السوداء التي تطفئها فتلك يد المنون التي تخطف نورها من بين أحبتها ، فبرحيلها ترحل السعادة ويهاجر الأمل ...... وأما جمر الفتيل فذاك ذكراها التي تخفيه وخاصة في أيامنا هذه ترف الحياة ومتاعبها وهمومها وسرعان ما تذوب ذكراها كأن لم تكن بالأمس.... .
هذه هي رحلة الأب وعطائه ومسيرة الشمعة ووفائها ....... .
ألا يستحقان من ذكرى دائمة مكللة بإكليل الورود ونعلقها على جدار القلب ، وفي سويداء العين نتذكرهما مع كل نبضة قلب وطرفة العين .....
يا من لكم آباء وأمهات ويا من فقدتم أحدهما أو كلاهما احفظ العهد واحترم الوعد....
واعلم و...اعلم ثم أعلم أن الأيام دول ... وكما تدين تدان... وفاء بوفاء وجفاء بجفاء.