الحمد لله الذي جعل القرآن هدىً للمتقين، ونوراً للسالكين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ الذي وصف بالخيرية معلم القرآن ومتعلمه، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
فإن العناية بكتاب الله تعالى تعلمًا وتعليمًا وفهمًا ومدارسةً أجلّ المطالب وأعلاها، وأنبل الغايات وأولاها، كيف لا؟ وهو كلام رب العالمين الذي أنزله على خاتم المرسلين، إنه "أشرف ما صرفت إليه الهمم، وأعظم ما جال فيه فكرٌ ومدّ به قلمٌ؛ لأنه منبع كل علمٍ وحكمةٍ، ومربع كل هدىً ورحمةً، وهو أجلّ ما تنسّك به المتنسّكون، وأقوى ما تمسّك به المتمسكون، من استمسك به فقد علقت يده بحبلٍ متينٍ، ومن سلك سبيله فقد سار على طريقٍ قويمٍ، وهدي إلى صراطٍ مستقيمٍ".
هذا وإن من العناية بالقرآن الكريم العناية بحفظه وضبطه، ومداومة استذكاره. وقد أحببت أن أساهم في خدمة حَفظة هذا القرآن العظيم، بطرح طريقةٍ عمليةٍ مجربةٍ، لحفظ كتاب الله تعالى وضبطه، استقيتها من تجربتي الشخصية وخبرتي المتواضعة في تعليم القرآن الكريم، سائلاً المولى عز وجل أن ينفع بها.
تمهيد :
لقد وصف الله القرآن العظيم بقوله: ﭽ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﭼ فأهل العلم هم الذين يحملون هذا الكتاب العظيم في صدورهم، ويتعاهدونه؛ عملاً بوصيّة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: ( تعاهدوا هذا القرآن فو الذي نفس محمدٍ بيده لهو أشد تفلتًا من الإبل في عقلها ) متفق عليه.
ولا شك أن من أهم أهداف المسلم في هذه الحياة أن يكون حافظاً لكتاب الله تعالى، حفظًا متقنًا. وكل أحدٍ يبذل في تحقيق هذا الهدف وسعه، فمن مستقلٍ ومستكثرٍ؛ لكن من الملفت للأنظار أن كثيرًا ممن يسلك طريق الحفظ لا يحسن استخدام الطريقة المناسبة، والمنهج الواضح؛ لذلك تجد أحدهم يتنقل بين طرق ووسائل يقترحها لنفسه، ولكن بدون جدوى، وآخر يملّ من كثرة الأساليب التي استخدمها ولم ينتفع بها، وثالث يتنقل بين المشايخ لعله يجد طريقةً تناسبه، ورابع يبدأ حفظه للقرآن بدون منهجيةٍ واضحةٍ، وخامس، وسادس، وسابع ... لذا كان لزامًا على المدرسين وأهل الخبرة والمتخصصين أن لا يدعوا الوقت يضيع سدًى على هؤلاء، بل يبذلوا لهم المشورة والتجربة والنصيحة.
وأثناء ممارستي لتدريس كتاب الله تعالى كنت أبحث عن طريقةٍ متقنةٍ لحفظ القرآن الكريم لغير الحافظ، وطريقةٍ أخرى لضبط حفظ القرآن الكريم للحفّاظ. فتوصّلت إلى طريقةٍ أحسبها أفضل ما وقفت عليه، وهي طريقةٌ عمليةٌ متقنةٌ، تناسب الجميع بإذن الله. وهاك عرضها.
أولاً: السبيل إلى حفظ القرآن الكريم:
مقدمات:
أولاً: اعلم أن القرآن يسيرٌ، يقول الله تعالى: ﭽﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﭼ فإذا كان الله قد يسّره فحريٌ بالمسلم أن يحرص على اغتنام ذلك بشيءٍ من الاجتهاد والصبر والمثابرة.
ثانياً: الدعاء سلاح المؤمن، فاجعل من دعائك دائمًا: اللهم يسّر لي حفظ كتابك، وأعنّي عليه. واحرص على أوقات الاستجابة، خصوصًا في السجود، ووقت السحر.
ثالثاً: عليك بالمواظبة، وإياك والانقطاع والغياب، فلقد رأينا من يواظب على حفظ نصف وجه يومياً، ينجز أكثر ممن يحفظ وجهين يومياً لكن بانقطاع.
رابعاً: لا بد من حفظ القرآن على شيخٍ متقنٍ؛ لأن القرآن إنما يؤخذ بالتلقي، وأضرار الحفظ الانفرادي، أو على شيخٍ غير متقنٍ كثيرةٌ لا تحصر، من أعظمها حفظ بعض الكلمات باللحن في نطقها، وهذا يصعب تعديله إلى الصواب جدًا، لأن الذاكرة تتلقى أول حفظ أودعته، خصوصًا عند الأطفال، ويعلم الله كم يعاني مدرّسو الحلقات القرآنية ممن يأتيهم وقد حفظ بهذه الطريقة السقيمة، بل بعضهم يحفظ القرآن كاملاً، ولا يستطيع أن يقرأ صفحةً سليمةً من الخطأ الجلي الواضح، بل ومن الأخطاء التي تغيّر المعنى. وتعليم مثل هذا أصعب بكثير من تعليم من لم يحفظ شيئًا سابقًا. فتنبّه!
الخطوات العملية:
1- اقرأ الدرس اليوميّ على الشيخ قبل الحفظ، واحرص على ضبط الكلمات التي في نطقها خطأ، وكررها بعد تعديلها عشرات المرات حتى تثبت في الذهن. ومن أنجع الطرق في ذلك: كثرة سماع الأشرطة للقراء المشهورين، المشهود لهم بالإتقان.
2- بعد حفظ الدرس كرره مراتٍ عديدةٍ ليستقرّ في القلب؛ لأن الحفظ الأوّلي لا يكاد يستقرّ، فإن لم يتعاهده الإنسان فور حفظه بكثرة التكرار كان قد ضيّع جهده في الحفظ. وأنبّه في التكرار إلى أمرٍ مهم، ألا وهو: أن يكون التكرار بالعرض على الغير، أو في الصلاة، وإن كنت إماماً فاقرأ ما تريد ضبطه في الصلوات الجهرية، فإن ذلك أنفع بكثيرٍ من التكرار الانفرادي مع النفس. فتنبّه! ومما يساعد على قوة الحفظ واستقراره:
أولاً: رفع الصوت بالقراءة أثناء الحفظ، وفائدة ذلك: أن يشترك في الحفظ حاسّة السمع، وحاسّة البصر، مع النطق. والحفظ الذي تشترك فيه عدة حواس يكون أضبط وأرسخ في الذهن من غيره.
ثانياً: احرص على أن يكون هناك فاصل زمني بين الحفظ ووقت التسميع، ولا تكن ممن يحفظ إذا حان وقت التسميع والعرض، فإن ذلك الحفظ لا يكاد يستقرّ؛ لأنه حفظٌ آنيٌّ.
3- لا بد من تسميع خمسة دروسٍ سابقةٍ مع الدرس الجديد على أقلّ تقدير، والهدف من ذلك تثبيت الحفظ الجديد؛ لئلا يتفلّت بسرعة.
4- عند الانتهاء من كل سورةٍ لا تتجاوزها حتى تتقنها، وكذا عند الانتهاء من الجزء. فمن أهم الأمور في الحفظ ربط السورة كاملةً، وربط الجزء كاملاً.
5- إياك والانقطاع عن مراجعة المحفوظ السابق أثناء الحفظ الجديد؛ فإن ذلك سيطيل عليك مشوار المراجعة والضبط فيما بعد.
ثانياً: السبيل إلى ضبط القرآن الكريم للحفاظ:
تنبيهات: تحتاج هذه الطريقة أن يجتمع فيك أمور:
الأول: الاستعانة بالله تعالى، والتوكل عليه وحده، والإلحاح في الدعاء أن يوفقك ويسددك، فالقلوب بيد الله سبحانه، يصرّفها كيف شاء.
الثاني: الهمة العالية، والعزيمة الصادقة، وعدم التردد والاضطراب، فالتردد والحيرة تفرّق جهد الإنسان، وتشتّت فكره، وتجعل وقته يذهب سدًى.
الثالث: المواظبة والالتزام الدقيق بالبرنامج، لأن البرنامج يختلّ ويضطرب في حال كثرة الغياب.
الرابع: الارتباط بمن يكون معينًا لك بعد الله في الاستمرار على هذا البرنامج، والأولى أن يكون معلّمًا للقرآن.
الخطوات العملية:
1- قسّم القرآن إلى ست مجموعات, كل مجموعةٍ مكونةٍ من ( 5 أجزاء )، وإن كان حفظك ضعيفًا فقسّم القرآن إلى عشر مجموعات، تتكون كل مجموعةٍ من ( 3 أجزاء ). والمقصود من هذا التقسيم أن تراجع كل مجموعةٍ على حدة، وتفرّغ لها كل جهدك وطاقتك، دون الالتفات إلى المجموعات الأخرى.
2- ابدأ بمراجعة المجموعة الأولى بالمقدار الذي تقدر عليه يومياً ( ربع جزء، نصف جزء، جزء، أو غير ذلك ) لكن بشرط تحديد المقدار اليومي، وأن لا يكون مفتوحًا على حسب الظروف والأوقات، بل اجعل هذا البرنامج من أولوياتك اليومية. وفي حال انشغالك لا بأس بتحديد أيامٍ محددةٍ في الأسبوع للمراجعة، شريطة الالتزام التامّ بها، وعدم التفريط فيها.
ولا بد أن تراعي أمرين في المقدار اليومي، وهما:
أولاً: أن تعرض المقدار اليومي على شيخٍ، أو زميلٍ مُجيدٍ، ولا تكتفِ بالمراجعة الفردية فإنها غير مجدية.
ثانياً: احرص على تسجيل أخطائك على المصحف الخاص بك، دون تساهل، أو تفريط، أو تغافل. فإن هذا من أكثر ما ينفعك بإذن الله في الضبط.
3- بعد اليوم الأول تلتزم كل يومٍ بمراجعة المقدار الجديد وعرضه، مع الاختبار في المقدار السابق. (مثال ذلك: المقدار اليومي: الحزب الثاني, الاختبار: الحزب الأول). والهدف من الاختبار في المقدار السابق أن يتكرّر المرور على كل مقدارٍ مرتين؛ فيكون أضبط وأتقن في الحفظ.
4- بعد الانتهاء من تسميع المجموعة للمرة الأولى، فإنه يُجرى للطالب اختبارٌ في المجموعة من قِبل المدرّس أو غيره، بواقع ثلاثة أسئلةٍ على الأقلّ في كلّ جزءٍ, ويتمّ من خلاله تحديد مستوى الضبط، وكذلك تحديد مقدار التسميع في المرة الثانية.
5 - ارجع مرةً ثانيةً لنفس المجموعة، وراجع فيها مقداراً يتناسب مع تقديرك في الاختبار، والأولى أن يكون ذلك راجعاً إلى المعلّم، لكن لابدّ فيه من شرطين:
الأول: أن يكون أكثر من المقدار الأول ولو بمقدارٍ يسيرٍ.
الثاني: أن يكون حفظك للمقدار أحسن من حفظك في المرة الأولى, ويُعرف ذلك بأن تجعل لنفسك كشفاً تسجّل فيه المقدار اليومي، وتجعل أمامه عدة خانات فارغة، ومع كل تسميعٍ تسجّل في إحدى الخانات عدد الأخطاء والشكوك، وبذلك ينضبط معك الأمر. ولا بد من التركيز أثناء المراجعة على الأخطاء التي تمّ تدوينها في المصحف؛ لئلا تتكرّر مرة أخرى.
6 - وهكذا يجرى له اختبارٌ بعد الانتهاء من المرة الثانية, والمرة الثالثة، حتى يتجاوز الاختبار بمعدلٍ لا يقل عن (96 %) حتى لو تطلّب ذلك تكرار المجموعة عشر مراتٍ, لكن مع مراعاة الشرطين السّابقين: أن تكون كل مرةٍ أفضل من سابقتها، وأطول في مقدار المراجعة اليومية.
7 - بعد الانتهاء من المجموعة الأولى ينتقل إلى المجموعة الثانية وبنفس الطريقة, لكن بزيادة أمرٍ مهمٍ، ألا وهو: تخصيص يوم كل أسبوعٍ تقريباً لمراجعة المجموعة الأولى. وذلك سهلٌ ميسورٌ لمن ضبط ما سبق. وهكذا إذا انتقل إلى المجموعة الثالثة والرابعة حتى الانتهاء من المصحف.
8- بعد الانتهاء من المجموعة الثالثة يتوقف لمراجعة المجموعتين الأولى والثانية، ولمدةٍ تتراوح من أسبوعٍ إلى أسبوعين. وهكذا بعد الانتهاء من المجموعة الخامسة يتوقف لمراجعة جميع ما سبق.
تنبيه: يمكن استعمال هذا البرنامج لمن يحفظ عدة أجزاء من القرآن، ولو لم يختم حفظ القرآن كاملاً، بحيث يقسّم مجموع حفظه إلى مجموعاتٍ متساويةٍ، على حسب مقدار ضبطه للحفظ، ويستمرّ في بقية الخطوات كما هي.
فمثلاً: من يحفظ خمسة عشر جزءاً من القرآن (نصف القرآن)، فله أن يقسّمها إلى ثلاث مجموعاتٍ، في كل مجموعةٍ خمسة أجزاء، إذا كان حفظه لا بأس به. وله أن يقسّمها إلى خمس مجموعاتٍ، لكل مجموعةٍ ثلاثة أجزاء، إذا كان ضعيف الحفظ. وعلى هذا فَقِس.
من فوائد هذه الطريقة:
1- فائدة نفسيّة: وذلك في فكرة تقسيم القرآن إلى مجموعات، وضبط كل مجموعةٍ على حدة؛ لأنك لو جعلت نصب عينيك هدفاً قريب المنال نسبيًّا فإنه يهون عليك، وتتشجع للانتهاء منه، وتحس بالفرحة والاطمئنان عند تحقيقه. بخلاف ما إذا جعلت هدفك ضبط القرآن كاملاً، فإن النفس تتثاقل وتحسّ بصعوبة الهدف المنشود.
2- الهدف من هذه الطريقة: ليس المقصود الضبط المؤقت، الذي يتفلّت بمجرد انقطاعٍ مؤقتٍ لا يتجاوز شهرًا، فإن هذا لا يسمى ضبطاً، وإنما هو حفظٌ مؤقتٌ لاجتياز اختبارٍ معينٍ، أو تجاوز مرحلةٍ ما. بل المقصود ضبطاً يبقى سنوات، فقد يستمرّ الشخص بعد هذا سنواتٍ طِوال بمراجعةٍ يسيرةٍ، والقرآن راسخٌ في صدره رسوخ الجبال. وهذا أمرٌ مجرّبٌ. والحمد لله.
3- إذا طرأ طارئٌ على الطالب، ولم يتمكن من مواصلة البرنامج فترةً محددةً, فإن هذه الطريقة تجعل حفظه لا يتفلت بسرعةٍ؛ لأنه يكرر المجموعة الواحدة مراتٍ متعددةً متتاليةً.
4- هذه الطريقة تتلافى المشكلة الكبرى التي تواجه من يريد ضبط حفظه للقرآن وهي: أنه لا يكاد ينتهي من مراجعة آخر القرآن إلا وقد نسي الأجزاء الأولى منه؛ لكن هذه الطريقة تتلافى ذلك بالربط الدائم بين الجديد والقديم بما يحقق رسوخ المحفوظ بإذن الله.
مدة البرنامج:
تختلف المدة على حسب مدى جودة الحفظ السابق، وعلى حسب المقدار اليومي، وعلى حسب الجدية والمواظبة في تطبيق البرنامج، لكن المدة التقريبية للبرنامج تتراوح ما بين ( ستة أشهر إلى سنة ).
وفي الختام أسأل الله أن ينفع بهذه الطريقة معلّمي القرآن، ومتعلّميه، وأن لا يحرمني الأجر، وأن يجمعنا جميعًا في جنّات النّعيم. إنه سميعٌ مجيبٌ. والله تعالى أعلى وأعلم، وأجلّ وأحكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
منقووول.
فإن العناية بكتاب الله تعالى تعلمًا وتعليمًا وفهمًا ومدارسةً أجلّ المطالب وأعلاها، وأنبل الغايات وأولاها، كيف لا؟ وهو كلام رب العالمين الذي أنزله على خاتم المرسلين، إنه "أشرف ما صرفت إليه الهمم، وأعظم ما جال فيه فكرٌ ومدّ به قلمٌ؛ لأنه منبع كل علمٍ وحكمةٍ، ومربع كل هدىً ورحمةً، وهو أجلّ ما تنسّك به المتنسّكون، وأقوى ما تمسّك به المتمسكون، من استمسك به فقد علقت يده بحبلٍ متينٍ، ومن سلك سبيله فقد سار على طريقٍ قويمٍ، وهدي إلى صراطٍ مستقيمٍ".
هذا وإن من العناية بالقرآن الكريم العناية بحفظه وضبطه، ومداومة استذكاره. وقد أحببت أن أساهم في خدمة حَفظة هذا القرآن العظيم، بطرح طريقةٍ عمليةٍ مجربةٍ، لحفظ كتاب الله تعالى وضبطه، استقيتها من تجربتي الشخصية وخبرتي المتواضعة في تعليم القرآن الكريم، سائلاً المولى عز وجل أن ينفع بها.
تمهيد :
لقد وصف الله القرآن العظيم بقوله: ﭽ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﭼ فأهل العلم هم الذين يحملون هذا الكتاب العظيم في صدورهم، ويتعاهدونه؛ عملاً بوصيّة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: ( تعاهدوا هذا القرآن فو الذي نفس محمدٍ بيده لهو أشد تفلتًا من الإبل في عقلها ) متفق عليه.
ولا شك أن من أهم أهداف المسلم في هذه الحياة أن يكون حافظاً لكتاب الله تعالى، حفظًا متقنًا. وكل أحدٍ يبذل في تحقيق هذا الهدف وسعه، فمن مستقلٍ ومستكثرٍ؛ لكن من الملفت للأنظار أن كثيرًا ممن يسلك طريق الحفظ لا يحسن استخدام الطريقة المناسبة، والمنهج الواضح؛ لذلك تجد أحدهم يتنقل بين طرق ووسائل يقترحها لنفسه، ولكن بدون جدوى، وآخر يملّ من كثرة الأساليب التي استخدمها ولم ينتفع بها، وثالث يتنقل بين المشايخ لعله يجد طريقةً تناسبه، ورابع يبدأ حفظه للقرآن بدون منهجيةٍ واضحةٍ، وخامس، وسادس، وسابع ... لذا كان لزامًا على المدرسين وأهل الخبرة والمتخصصين أن لا يدعوا الوقت يضيع سدًى على هؤلاء، بل يبذلوا لهم المشورة والتجربة والنصيحة.
وأثناء ممارستي لتدريس كتاب الله تعالى كنت أبحث عن طريقةٍ متقنةٍ لحفظ القرآن الكريم لغير الحافظ، وطريقةٍ أخرى لضبط حفظ القرآن الكريم للحفّاظ. فتوصّلت إلى طريقةٍ أحسبها أفضل ما وقفت عليه، وهي طريقةٌ عمليةٌ متقنةٌ، تناسب الجميع بإذن الله. وهاك عرضها.
أولاً: السبيل إلى حفظ القرآن الكريم:
مقدمات:
أولاً: اعلم أن القرآن يسيرٌ، يقول الله تعالى: ﭽﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﭼ فإذا كان الله قد يسّره فحريٌ بالمسلم أن يحرص على اغتنام ذلك بشيءٍ من الاجتهاد والصبر والمثابرة.
ثانياً: الدعاء سلاح المؤمن، فاجعل من دعائك دائمًا: اللهم يسّر لي حفظ كتابك، وأعنّي عليه. واحرص على أوقات الاستجابة، خصوصًا في السجود، ووقت السحر.
ثالثاً: عليك بالمواظبة، وإياك والانقطاع والغياب، فلقد رأينا من يواظب على حفظ نصف وجه يومياً، ينجز أكثر ممن يحفظ وجهين يومياً لكن بانقطاع.
رابعاً: لا بد من حفظ القرآن على شيخٍ متقنٍ؛ لأن القرآن إنما يؤخذ بالتلقي، وأضرار الحفظ الانفرادي، أو على شيخٍ غير متقنٍ كثيرةٌ لا تحصر، من أعظمها حفظ بعض الكلمات باللحن في نطقها، وهذا يصعب تعديله إلى الصواب جدًا، لأن الذاكرة تتلقى أول حفظ أودعته، خصوصًا عند الأطفال، ويعلم الله كم يعاني مدرّسو الحلقات القرآنية ممن يأتيهم وقد حفظ بهذه الطريقة السقيمة، بل بعضهم يحفظ القرآن كاملاً، ولا يستطيع أن يقرأ صفحةً سليمةً من الخطأ الجلي الواضح، بل ومن الأخطاء التي تغيّر المعنى. وتعليم مثل هذا أصعب بكثير من تعليم من لم يحفظ شيئًا سابقًا. فتنبّه!
الخطوات العملية:
1- اقرأ الدرس اليوميّ على الشيخ قبل الحفظ، واحرص على ضبط الكلمات التي في نطقها خطأ، وكررها بعد تعديلها عشرات المرات حتى تثبت في الذهن. ومن أنجع الطرق في ذلك: كثرة سماع الأشرطة للقراء المشهورين، المشهود لهم بالإتقان.
2- بعد حفظ الدرس كرره مراتٍ عديدةٍ ليستقرّ في القلب؛ لأن الحفظ الأوّلي لا يكاد يستقرّ، فإن لم يتعاهده الإنسان فور حفظه بكثرة التكرار كان قد ضيّع جهده في الحفظ. وأنبّه في التكرار إلى أمرٍ مهم، ألا وهو: أن يكون التكرار بالعرض على الغير، أو في الصلاة، وإن كنت إماماً فاقرأ ما تريد ضبطه في الصلوات الجهرية، فإن ذلك أنفع بكثيرٍ من التكرار الانفرادي مع النفس. فتنبّه! ومما يساعد على قوة الحفظ واستقراره:
أولاً: رفع الصوت بالقراءة أثناء الحفظ، وفائدة ذلك: أن يشترك في الحفظ حاسّة السمع، وحاسّة البصر، مع النطق. والحفظ الذي تشترك فيه عدة حواس يكون أضبط وأرسخ في الذهن من غيره.
ثانياً: احرص على أن يكون هناك فاصل زمني بين الحفظ ووقت التسميع، ولا تكن ممن يحفظ إذا حان وقت التسميع والعرض، فإن ذلك الحفظ لا يكاد يستقرّ؛ لأنه حفظٌ آنيٌّ.
3- لا بد من تسميع خمسة دروسٍ سابقةٍ مع الدرس الجديد على أقلّ تقدير، والهدف من ذلك تثبيت الحفظ الجديد؛ لئلا يتفلّت بسرعة.
4- عند الانتهاء من كل سورةٍ لا تتجاوزها حتى تتقنها، وكذا عند الانتهاء من الجزء. فمن أهم الأمور في الحفظ ربط السورة كاملةً، وربط الجزء كاملاً.
5- إياك والانقطاع عن مراجعة المحفوظ السابق أثناء الحفظ الجديد؛ فإن ذلك سيطيل عليك مشوار المراجعة والضبط فيما بعد.
ثانياً: السبيل إلى ضبط القرآن الكريم للحفاظ:
تنبيهات: تحتاج هذه الطريقة أن يجتمع فيك أمور:
الأول: الاستعانة بالله تعالى، والتوكل عليه وحده، والإلحاح في الدعاء أن يوفقك ويسددك، فالقلوب بيد الله سبحانه، يصرّفها كيف شاء.
الثاني: الهمة العالية، والعزيمة الصادقة، وعدم التردد والاضطراب، فالتردد والحيرة تفرّق جهد الإنسان، وتشتّت فكره، وتجعل وقته يذهب سدًى.
الثالث: المواظبة والالتزام الدقيق بالبرنامج، لأن البرنامج يختلّ ويضطرب في حال كثرة الغياب.
الرابع: الارتباط بمن يكون معينًا لك بعد الله في الاستمرار على هذا البرنامج، والأولى أن يكون معلّمًا للقرآن.
الخطوات العملية:
1- قسّم القرآن إلى ست مجموعات, كل مجموعةٍ مكونةٍ من ( 5 أجزاء )، وإن كان حفظك ضعيفًا فقسّم القرآن إلى عشر مجموعات، تتكون كل مجموعةٍ من ( 3 أجزاء ). والمقصود من هذا التقسيم أن تراجع كل مجموعةٍ على حدة، وتفرّغ لها كل جهدك وطاقتك، دون الالتفات إلى المجموعات الأخرى.
2- ابدأ بمراجعة المجموعة الأولى بالمقدار الذي تقدر عليه يومياً ( ربع جزء، نصف جزء، جزء، أو غير ذلك ) لكن بشرط تحديد المقدار اليومي، وأن لا يكون مفتوحًا على حسب الظروف والأوقات، بل اجعل هذا البرنامج من أولوياتك اليومية. وفي حال انشغالك لا بأس بتحديد أيامٍ محددةٍ في الأسبوع للمراجعة، شريطة الالتزام التامّ بها، وعدم التفريط فيها.
ولا بد أن تراعي أمرين في المقدار اليومي، وهما:
أولاً: أن تعرض المقدار اليومي على شيخٍ، أو زميلٍ مُجيدٍ، ولا تكتفِ بالمراجعة الفردية فإنها غير مجدية.
ثانياً: احرص على تسجيل أخطائك على المصحف الخاص بك، دون تساهل، أو تفريط، أو تغافل. فإن هذا من أكثر ما ينفعك بإذن الله في الضبط.
3- بعد اليوم الأول تلتزم كل يومٍ بمراجعة المقدار الجديد وعرضه، مع الاختبار في المقدار السابق. (مثال ذلك: المقدار اليومي: الحزب الثاني, الاختبار: الحزب الأول). والهدف من الاختبار في المقدار السابق أن يتكرّر المرور على كل مقدارٍ مرتين؛ فيكون أضبط وأتقن في الحفظ.
4- بعد الانتهاء من تسميع المجموعة للمرة الأولى، فإنه يُجرى للطالب اختبارٌ في المجموعة من قِبل المدرّس أو غيره، بواقع ثلاثة أسئلةٍ على الأقلّ في كلّ جزءٍ, ويتمّ من خلاله تحديد مستوى الضبط، وكذلك تحديد مقدار التسميع في المرة الثانية.
5 - ارجع مرةً ثانيةً لنفس المجموعة، وراجع فيها مقداراً يتناسب مع تقديرك في الاختبار، والأولى أن يكون ذلك راجعاً إلى المعلّم، لكن لابدّ فيه من شرطين:
الأول: أن يكون أكثر من المقدار الأول ولو بمقدارٍ يسيرٍ.
الثاني: أن يكون حفظك للمقدار أحسن من حفظك في المرة الأولى, ويُعرف ذلك بأن تجعل لنفسك كشفاً تسجّل فيه المقدار اليومي، وتجعل أمامه عدة خانات فارغة، ومع كل تسميعٍ تسجّل في إحدى الخانات عدد الأخطاء والشكوك، وبذلك ينضبط معك الأمر. ولا بد من التركيز أثناء المراجعة على الأخطاء التي تمّ تدوينها في المصحف؛ لئلا تتكرّر مرة أخرى.
6 - وهكذا يجرى له اختبارٌ بعد الانتهاء من المرة الثانية, والمرة الثالثة، حتى يتجاوز الاختبار بمعدلٍ لا يقل عن (96 %) حتى لو تطلّب ذلك تكرار المجموعة عشر مراتٍ, لكن مع مراعاة الشرطين السّابقين: أن تكون كل مرةٍ أفضل من سابقتها، وأطول في مقدار المراجعة اليومية.
7 - بعد الانتهاء من المجموعة الأولى ينتقل إلى المجموعة الثانية وبنفس الطريقة, لكن بزيادة أمرٍ مهمٍ، ألا وهو: تخصيص يوم كل أسبوعٍ تقريباً لمراجعة المجموعة الأولى. وذلك سهلٌ ميسورٌ لمن ضبط ما سبق. وهكذا إذا انتقل إلى المجموعة الثالثة والرابعة حتى الانتهاء من المصحف.
8- بعد الانتهاء من المجموعة الثالثة يتوقف لمراجعة المجموعتين الأولى والثانية، ولمدةٍ تتراوح من أسبوعٍ إلى أسبوعين. وهكذا بعد الانتهاء من المجموعة الخامسة يتوقف لمراجعة جميع ما سبق.
تنبيه: يمكن استعمال هذا البرنامج لمن يحفظ عدة أجزاء من القرآن، ولو لم يختم حفظ القرآن كاملاً، بحيث يقسّم مجموع حفظه إلى مجموعاتٍ متساويةٍ، على حسب مقدار ضبطه للحفظ، ويستمرّ في بقية الخطوات كما هي.
فمثلاً: من يحفظ خمسة عشر جزءاً من القرآن (نصف القرآن)، فله أن يقسّمها إلى ثلاث مجموعاتٍ، في كل مجموعةٍ خمسة أجزاء، إذا كان حفظه لا بأس به. وله أن يقسّمها إلى خمس مجموعاتٍ، لكل مجموعةٍ ثلاثة أجزاء، إذا كان ضعيف الحفظ. وعلى هذا فَقِس.
من فوائد هذه الطريقة:
1- فائدة نفسيّة: وذلك في فكرة تقسيم القرآن إلى مجموعات، وضبط كل مجموعةٍ على حدة؛ لأنك لو جعلت نصب عينيك هدفاً قريب المنال نسبيًّا فإنه يهون عليك، وتتشجع للانتهاء منه، وتحس بالفرحة والاطمئنان عند تحقيقه. بخلاف ما إذا جعلت هدفك ضبط القرآن كاملاً، فإن النفس تتثاقل وتحسّ بصعوبة الهدف المنشود.
2- الهدف من هذه الطريقة: ليس المقصود الضبط المؤقت، الذي يتفلّت بمجرد انقطاعٍ مؤقتٍ لا يتجاوز شهرًا، فإن هذا لا يسمى ضبطاً، وإنما هو حفظٌ مؤقتٌ لاجتياز اختبارٍ معينٍ، أو تجاوز مرحلةٍ ما. بل المقصود ضبطاً يبقى سنوات، فقد يستمرّ الشخص بعد هذا سنواتٍ طِوال بمراجعةٍ يسيرةٍ، والقرآن راسخٌ في صدره رسوخ الجبال. وهذا أمرٌ مجرّبٌ. والحمد لله.
3- إذا طرأ طارئٌ على الطالب، ولم يتمكن من مواصلة البرنامج فترةً محددةً, فإن هذه الطريقة تجعل حفظه لا يتفلت بسرعةٍ؛ لأنه يكرر المجموعة الواحدة مراتٍ متعددةً متتاليةً.
4- هذه الطريقة تتلافى المشكلة الكبرى التي تواجه من يريد ضبط حفظه للقرآن وهي: أنه لا يكاد ينتهي من مراجعة آخر القرآن إلا وقد نسي الأجزاء الأولى منه؛ لكن هذه الطريقة تتلافى ذلك بالربط الدائم بين الجديد والقديم بما يحقق رسوخ المحفوظ بإذن الله.
مدة البرنامج:
تختلف المدة على حسب مدى جودة الحفظ السابق، وعلى حسب المقدار اليومي، وعلى حسب الجدية والمواظبة في تطبيق البرنامج، لكن المدة التقريبية للبرنامج تتراوح ما بين ( ستة أشهر إلى سنة ).
وفي الختام أسأل الله أن ينفع بهذه الطريقة معلّمي القرآن، ومتعلّميه، وأن لا يحرمني الأجر، وأن يجمعنا جميعًا في جنّات النّعيم. إنه سميعٌ مجيبٌ. والله تعالى أعلى وأعلم، وأجلّ وأحكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
منقووول.